فصل: باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة ومن كربها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة ومن كربها:

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» ذكر الحديث.
وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال: حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن نافع قال: حدثني ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه، فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم، فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه، ورأيت رجلا من أمتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنفذه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جانبا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة».
قلت: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة والله أعلم.
وقد ينجي منها كلها ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي».
وخرج عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلا مات فدخل الجنة، فقيل له ما كنت تعمل؟ فقال: إني كنت أبايع الناس، فكنت أنظر المعسر وأتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له» فقال له المسعود رضي الله عنه: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم من طرق، وخرجه البخاري.
وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريما له فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر. قال الله فقال الله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينس عن معسر أو يضع عنه».
وعن أبي اليسر واسمه كعب بن عمرو رضي الله عنه أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله» خرجه مسلم.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «من أنظر مديونا فله بكل يوم عند الله وزن أحد ما لم يطلبه».
وروى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: معنى في ظله أي في ظل عرشه» وقد جاء هكذا تفسيرا في الحديث.
وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشبع جائعا وكسا عريانا وآوى مسافرا أعاذه الله من أهوال يوم القيامة».
وخرج الطبراني سليمان بن أحمد عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقم أخاه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة». وفي التنزيل تحقيقا لهذا الباب، وجامعا له قوله الحق {يوفون بالنذر} إلى قوله: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} مع قوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}مع قوله في غير موضع بعد ذكر الأعمال الصالحة {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
باب:
ذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن يحيى ابن خالد قال: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا العمرة قال: وما يكفرها يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب المعيشة». قال أحمد بن يحيى: فقلت: كيف سمعت هذا من يحيى بن بكير فلم يسمعه أحد غيرك؟ قال: كنت عند يحيى جالسا فجاءه رجل فذكر ضعفه فقال: قال ابن بكير: حدثنا مالك فذكره. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصِيرة في {وزر}:
الوزر: الملْجأُ الذي يُلْتجأُ إِليه من الجبل، قال تعالى: {كلاّ لا وزر}.
والمُؤازرة: المُعاونة، ومنه الوزِير، قال تعالى: {واجْعل لِّي وزِيرا مِّنْ أهْلِي} وهو الذي يُؤازِرُه فيحْمِل عنه ما يثْقُل عليه.
والوزيرُ: الذي يلْتجِئ الأميرُ إِلى رأيه، فهو وزر له، أى ملجأُ ومفْزعٌ، أو لأنّه يحمل ثِقْل أمِيرِه.
وقوله تعالى: {لِيحْمِلُواْ أوْزارهُمْ كامِلة يوْم الْقِيامةِ ومِنْ أوْزارِ الّذِين يُضِلُّونهُمْ بِغيْرِ عِلْمٍ} كقوله: {وليحْمِلُنّ أثْقالهُمْ وأثْقالا مّع أثْقالهِمْ}.
وقوله تعالى: {ووضعْنا عنك وزرك} أى ما كنت فيه من أمْر الجاهليّة فأُعْفِيت بما خُصِصْت به عن تعاطِى ما كان عليه قوْمُك.
وأعدّ أوْزار الحرب، أى آلاتِها، قال الأعْشى:
وأعْددْت للحرْب أوْزارها ** رماحا طِوالا وخيْلا ذُكورا

ووضعتِ الحربُ أوْزارها، أى انقضى أمْرُها وخفّت أثقالها، ولم يبْق قِتال.
ووزر فلانٌ: أذْنب فهو وازِرٌ، ووزر، يوزر، ووزر، فهو مُوْزُورٌ يقال: فلانٌ موزورٌ غير مأجُورٍ.
واتّزر فهو مُتّزِرٌ، قال مرّارُ بن سعِيد:
أسْتغْفِرُ الله مِنْ جِدّىِ ومِنْ لعِبِى ** وزرى فكُلُّ امرئ لابد مُتّزِرُ

وعليهِ في هذا وزر وأوْزارٌ، قال تعالى: {ومِنْ أوْزارِ الّذِين يُضِلُّونهُمْ}.
ووزر فلانٌ للأمِيرِ يزِرُ له وِزارة، واسْتُوزر اسْتِزارا.
وعن النّضْرِ: سمعتُ فصِيحا من جُذام يقول: نحن أوْزارُه أجمعُون أى وزراؤه، وأنصارُه، نحو أشراف وأيْتام.
ووزر الحِمل يزِرُه: حمله، وقوله تعالى: {ولا تزِرُ وازِرةٌ وزر أُخْرى} أى لا يُحْملُ وزره من حيثُ يتعرّى منه المحمولُ عنه.
وحمْلُ وزر الغيْر في الحقيقة هو على نحو ما أشار إِليه النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «منْ سنّ سُنّة حسنة كان له أجُرُها وأجْرُ منْ عمِل بها من غيرِ أنْ ينْقُض من أجْرِه شيْءٌ، ومن سنّ سُنّة سيِّئة كان عليه وزرها ووزر منْ عمِل بها»، أى مثلُ وزر منْ عمل بها.
وفى الحديث: «ارْجِعْن مأْزورات غير مأْجورات» للازدواج فإِنّ الأصل موْزُورات. اهـ.

.تفسير الآيات (16- 25):

قوله تعالى: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به (16) إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه (17) فإِذا قرآناهُ فاتّبِعْ قرآنه (18) ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ (19) كلّا بلْ تُحِبُّون الْعاجِلة (20) وتذرُون الْآخِرة (21) وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ (22) إِلى ربها ناظِرةٌ (23) ووُجُوهٌ يوْمئِذٍ باسِرةٌ (24) تظُنُّ أنْ يُفْعل بها فاقِرةٌ (25)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان معنى هذا كله أن الإنسان محجوب في هذه الدار عن إدراك الحقائق بما فيه من الحظوظ والكسل والفتور، لما فيه من النقائص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبرءا من ذلك لخلق الله له كاملا وترقيته بعد ميلاده كل يوم في مراقي الكمال حتى صار إلى حد لا يشغله عن العلوم شيء فكان بحيث يرى مواقع الفتن خلال البيوت كمواقع القطر، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه، ويقول: «والله لا يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري» وكان صلى الله عليه وسلم يرى في أشد الظلام وغير ذلك مما له صلى الله عليه وسلم من رقة الجوهر الذي لم ينله أحد غيره، وذلك مما يدل على الكشف التام ولكنه كان صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لهذا القرآن لما له في نفسه من الجلالة ولما فيه من خزائن السعادة والعلوم التي لا حد لها فتستقصى، ولأنه كلام الملك الأعظم، وبأمره نزل إليه صلى الله عليه وسلم مع رسوله جبريل عليه الصلاة والسلام، يعالج عند سماعه أول ما يأتيه شدة، فكان يحرك به لسانه استعجالا بتعهده ليحفظه ولا يشذ عنه منه شيء، وكان قد ختم سبحانه ما قبلها بالمعاذير، وكانت العجلة مما يعتذر عنه، وكان الحامل على جميع ما يوجب الملامة والاعتذار ما طبع عليه الإنسان من حب العاجل، قال سبحانه نتيجة عن هذه المقدمات الموجبة لانكشاف الأشياء للإنسان الموجب للإخبار بها والخوف من عواقبها لئلا يميل إلى العاجلة ولا يقع في مخالفة لولا ما شغله به من الحجب إعلاما بأنه سبحانه وتعالى قد دفع عن النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحجب وأوصله من رتبة «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» إلى أنهاها، وأنه قادر على ما يريد من كشف ما يريد لمن يريد كما يكشف لكل إنسان عن أعماله في القيامة حتى يصير يعرف ما قدم منها وما أخر، وتنبيها على أنه صلى الله عليه وسلم لا كسب له في هذا القرآن بغير حسن التلقي إبعادا له عن قول البشر وتمهيدا بما يحرك من لسانه بالقرآن قبل تمام الإلقاء لذم ما طبع عليه الإنسان: {لا تحرك به} أي القرآن الذي هو تذكرة من شاء ذكره لولا حجاب المشيئة، وقد كشف سبحانه وتعالى حجاب المشيئة لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشاء أن يذكره حين قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [الإنسان: 30] لأنه ما نزله إليه بغير اكتساب منه إلا وقد شاء ذلك {لسانك} الذي ليست له حركة إلا في ذكر الله تعالى.
ولما لم يكن لهذا التحريك فائدة مع حفظ الله له على كل حال إلا قصد الطاعة بالعجلة، وكانت العجلة هي الإتيان بالشيء قبل أوانه الأليق به، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مثابا على ذلك أعظم الثواب لأنه لا حامل له عليه إلا حب الله وحب ما يأتي منه، وجعلها الله سبحانه وتعالى علة وإن لم تكن مقصودة فقال: {لتعجل به} أي بحمله وأخذه قبل أن يفرغ من إلقاءه إليك رسولنا جبريل عليه الصلاة والسلام مخافة أن ينفلت منك، لأن هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال موسى عليه الصلاة والسلام: {وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84] لأنها من النفس اللوامة التي تلوم على ترك المبادرة إلى أفعال الخير فغيرها من أفعال المطمئنة أكمل منها، فنقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه، وكان هذا الكلام المتعلق بالقرآن والذي بعده فرقانا بين صفتي اللوامة في الخير واللوامة في الشر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى في المدثر حكاية {إن هذا إلا قول البشر} وما بينهما اعتراض في وصف حال القيامة جر إليه قوله تعالى: {سأصليه سقر} [المدثر: 26] أي أن الذي خيل به المتقول في القرآن أمران: أحدهما أنه سحر والآخر أنه قول البشر، والعلم اليقين حاصل بانتفاء الأول، وأما الثاني فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يتقن حفظه فتدخل عليه كلمة مثلا فيكون من قول البشر فنهاه الله تعالى عن العجلة وضمن له الحفظ، ثم علل هذا النهي بقوله مؤكدا لأنه من مجراته: {إن علينا} أي بما لنا من العظمة، لا على أحد سوانا {جمعه} أي في صدرك حتى نثبته ونحفظه {وقرآنه} أي إطلاق لسانك به وإثباته في رتبته من الكتاب حال كونه مجموعا أتم جمع ميسرا حسن تيسير فأرح نفسك مما تعالج في أمره من المشقة وتكابده من العناء.
ولما نهاه أمره فقال: {فإذا قرآناه} أي أقدرنا جبريل عليه الصلاة والسلام على تأديته إليك كما حملناه إياه بما لنا من العظمة وعلى حسبها {فاتبع} أي بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار ذهنك {قرآنه} أي قراءته مجموعة على حسب ما أداه إليك رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة واعمل به حتى يصير لك خلقا فيكون قائدك إلى كل خير، فالضمير يجوز أن يكون للقرآن، يكون القرآن هنا بمعنى القراءة، عبر به عنها تعظيما لها، أي اتبع قراءة القرآن أي قراءة جبريل عليه السلام له، ولو كان على بابه لم يكن محذورا، فإن المراد به خاص وبالضمير عام، ويجوز أن يكون الضمير لجبريل عليه السلام أي اتبع قراءته ولا تراسله.
ولما كان بيان كلماته ونظومه على أي وجه سمعه من مثل صلصلة الجرس وغيرها وبيان معانيه وما فيه من خزائن العلم من العظمة بمكان يقصر عنه الوصف، أشار إليه بأداة التراخي، فقال دالا على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، مشعرا بأنه كان يعجل بالسؤال عن المعنى كما كان يعجل بالقراءة: {ثم} وأكد ذلك إشارة إلى أنه لعظمه مما يتوقف فيه فقال: {إن علينا} أي بما لنا من العظمة. أي بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء سمعته من جبريل عليه الصلاة والسلام على مثل صلصلة الجرس أو بكلام الناس المعتاد بالصوت والحرف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، روى البخاري في تفسير الآية في أول صحيحه وآخره عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رضى الله عنهما: فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما» فأنزل الله عز وجل الآية حتى قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] قال: فاستمع له وأنصت ثم إن علينا أن تقرأه، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام استمع مطرقا فإذا انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه جبريل عليه الصلاة والسلام كما وعده الله بكفالة قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 27- 28].
ولما كان سبحانه وتعالى قد ختم الكلام في المكذبين بأن أعمالهم محفوظة، وأن كل أحد على نفسه شاهد، لأنه يعلم جميل ما يفعل من قبيحه وإن اعتذر، ولولاه ما اشتد اتصاله به، وختم بضمان البيان للقرآن، فكان شاهدا بينا على كل إنسان بما له من عظيم البيان.
قال نافيا لما يظن من جهلهم بقبيح أفعالهم الذي اقتضاه اعتذارهم مشعرا بأن الآدمي مطبوع على الاستعجال بعد النهي عن العجلة في أعز الأشياء وأعلاها وأهمها وأولاها، لأنه أصل الدين ليكون ذلك مؤكدا للنهي عن العجلة بالقرآن ومؤكدا لذمهم بحب العاجلة مغلظا لتوبيخهم على الميل مع الطبع وترك ما يقتضيه العلم والعقل: {كلا} أي لا يجهل أحد منهم قبائح ما ارتكبه وإن اعتذر وما ارتكب شيئا منها عن جهل {بل} هم {يحبون} أي محبة متجددة مستمرة على تجدد الزمان {العاجلة} بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها فيأخذونها، وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه فإن الآخرة والأولى ضرتان من أحب إحداهما فعل ولابد ما يباعده عن الأخرى، فإن (حبك للشيء يعمي ويصم) وهذا بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في مطلق العجلة فكيف بالعاجلة فإنما طبعناه على الكمال، فكان يعالج من العجلة بالقراءة شدة فحين نهيناه عن ذلك انتهى رجوعا إلى طبعه الكامل الذي لا يشوبه نقص، وكذا كان أمره تكوينا لا إباء معه ولا كلفة، فإن نفسه المطمئنة هي الغالبة ولها السلطان الأكبر، ولأجل تضارر الدارين وكونهم يحبون العاجلة قال: {وتذرون} أي يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن {الآخرة} لانهم يبغضونها لارتكابهم ما يضربهم فيها، وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان نظرا نظرا للمعنى إشارة إلى أنه لا يسلم من العجلة المذمومة إلا أفراد حفظهم الله بقدرته الباهرة، والآية من الاحتباك: ذكر الحب أولا دليلا على البغض ثانيا، والترك ثانيا دليلا على الإقبال والأخذ أولا، فأنفسهم اللوامة تلومهم على التقصير في الشر كما أن نفسك تحثك على الازدياد من الخير والمبادرة إليه، فنعم النفس هي ولتعلين مقامها، وأما أنفسهم فإنها تحثهم لأجل اللوم على التقصير في الشر على الإخلاد إلى العاجل الفاني والإقلاع عن الباقي لكونه غائبا فبئس الأنفس هي.
ولما ذكر الآخرة التي أعرضوا عنها، ذكر ما يكون فيها بيانا بجهلهم وسفههم وقلة عقلهم، ترهيبا لمن أدبر عنها وترغيبا لمن أقبل عليها لطفا بهم ورحمة لهم فقال: {وجوه} أي من المحشورين وهم جميع الخلائق {يومئذ} أي إذ تقوم القيامة {ناضرة} من النضرة بالضاد، وهي النعمة والرفاهية أي هي بهية مشرقة ظاهر عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها {إلى ربها} أي المحسن لها خاصة باعتبار أن عُدّ النظر إلى غيره كلا نظر {ناظرة} أي دائما هم محدقون أبصارهم نحو جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصرره بأعينهم بدليل التعدية ب (إلى) وذلك، النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام- كما قاله ابن عباس- رضى الله عنهما- وأكثر المفسرين وجميع أهل السنة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث «كما يرى القمر ليلة البدر» كل من يريد رؤيته من بيته مخليا به- هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه- تعالى الله عن التشبيه، وهكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام من الأشخاص المستكثرة في البلاد المتباينة في الوقت الواحد، وقدم الجار الدال على الاختصاص إشارة إلى هذا النظر مباين للنظر إلى غيره فلا يعد ذلك نظرا بالنسبة إليه، وإلى أن تلك الوجوه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث لا تفتر عن ذلك، ولا يعد نظرها إلى ما سواه شيئا، وهي آمنة من أن يفعل بها فاقرة، وعبر بالوجوه عن أصحابها لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أن المراد بالنظر حقيقته، وزاده صراحة بالتعدية ب (إلى) فإن الانتظار لا يعدى بها، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء بعد أن جوّز أن يخلق الله النظر في الجهة وغيرها: والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة. انتهى.
وأهل الجنة متفاوتون في النظر: روي أن منهم من ينظر إلى الله بكرة وعشية، وفي خبر آخر، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، ومتفاوتون في مقدار الكشف في الجمال والأنس والبهجة التي يكون عنها اللذة بحسب أعمالهم.
ولما ذكر أهل النعمة، أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال: {ووجوه يومئذ} أي في ذلك اليوم بعينه {باسرة} أي شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه فرسبت بعد أن سبرت أحوالها، فلم يظهر لها وجه خلاص، والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع لاشتداد كلوحه عند العراك، وتلك الوجوه عن ربها محجوبة، وإلى أنواع العذاب ناظرة.
ولما كان ظن الشر كافيا في الحذر منه والمبالغة في استعمال ما يحمي منه، قال دالا على أنه عبر بالوجه عن الجملة: {تظن} أي تتوقع بما ترى من المخايل: {أن يفعل} بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الشر لا كونه من معين {بها} أي بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى {فاقرة} أي داهية تكسر الفقار وهو عظم سلسلة الظهر الذي هو أصلب ما في العظام فتكون قاصمة الظهر، فالآية من الاحتباك: ذكر النظر في الأولى دليل على ضده في الثانية، وذكر الفاقرة في الثانية دليل على ضدها في الأولى. اهـ.